فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك عُدّي بحرف (على) المفيد لمعنى الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول (على).
فكان هذا التركيب استعارةً مكنية رُمز إليها بما هو من مُلائمات المشبه به وهو حرف (على).
وفيه استعارة تبعية.
والتعريف باللام في قوله: {إنما السبيل} تعريف العهد، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91] على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنونك وهم أغنياء.
ونظير هذا قوله تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} في سورة الشورى (42).
فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب.
والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف.
وقد سبقت آية: {فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا} من سورة النساء (90)، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية.
وجملة: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهم أغنياء، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء.
وقد تقدم القول في نظيره آنفًا.
وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة {وطُبع على قلوبهم} [التوبة: 87] لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية، ولأجل هذا المعنى فرع عليه {فهم لا يعلمون} لنفي أصل العلم عنهم، أي يكادون أن يساووا العجماوات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ}
هناك قال سبحانه: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} الذين كانت لهم أعذارهم في التخلف عن الجهاد، ولكن كانوا محسنين في تخلفهم هذا فقال تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ}. إذن: فعلى من يكون السبيل؟
وهنا تأتي إجابة الحق سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ}.
أي: أن طريق الإثم واللوم والتعنيف والتوبيخ إنما يتجه إلى هؤلاء الأغنياء الذين استأذنوا في أن يقعدوا عن القتال، ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغني إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعْفيَ. إذن: فمن يجد ما ينفقه فهو غنيّ بطعامه. والضعيف قد أعفيَ، إذن: فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعْفيَ، إذن: فالصحيح غنيّ بصحته، ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان الجهاد قد أعفيَ، إذن: فمن يملك راحلة فهو غنيّ براحلته.
وعلى ذلك لا تأخذ كلمة الغنى على المال فقط، بل انظر إلى من تنطبق عليه شروط الجهاد؟ إذن: فاللوم والتوبيخ والتعنيف والإثم على الأغنياء بهذه الأشياء، وطلبوا أن يقعدوا عن الجهاد.
ولسائل أن يقول: ولماذا يستأذنون وهم أغنياء؟
نقول: لأنهم منافقون، وقد وضعهم نفاقهم في موضع الهوان، حتى قال الحق سبحانه وتعالى عنهم: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} ومن يَرضَ أن يكون وضعه مع الخوالف، فهو يتصف بدناءة النفس وانحطاط الهمة؛ فهم رضوا ان يُعاملوا معاملة النساء، والخوالف- كما نعلم- جاءت على مراحل، فهم قالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} [التوبة: 86].
وقلنا من قبل: إن القعود مقابل للقيام، والقيام من صفات الرجولة؛ لأن الرجل قَيَّم على أهله. والقعود للنساء، والخوالف ليست جمع خالف، وإنما هي جمع خالفة، ولا يجمع بها إلا النساء، وكذلك كلمة {القواعد} يقول سبحانه: {والقواعد مِنَ النساء...} [النور: 60].
أي: أنهم ارتضوا لأنفسهم دناءة وخسة؛ فتنازلوا عن مهام الرجال، وارتضوا أن يكونوا مع النساء هربًا من القتال، والشاعر يقول:
وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري ** أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نسَاءُ

أي: القوم في مقابل النساء.
ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وفي الآية السابقة يقول سبحانه: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ...} [التوبة: 87].
ما الفرق بين النصين؟
إذا رأيت فعلًا تكليفيًّا مبنيًّا للمجهول، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ...} [البقرة: 216].
وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...} [البقرة: 183].
قد يقول قائل: كان المفروض أن يقال: كتب الله عليكم القتال وكتب الله عليكم الصيام، لأنه صار أمرًا لازمًا مفروضًا، فكان الأولى أن يقول: كتب الله، أي أن الذي يفرض هو الله.
رغم أن الحق سبحانه هو الذي يكلف، إلا أن كل التكليفات تأتي بصيغة المبني للمجهول كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...} [البقرة: 178].
وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين...} [البقرة: 180].
والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف كافرًا بأي تكليفات إيمانية؛ فسبحانه لم يكلف بأي حكم من أحكام الإيمان إلا من آمن به وأسلم له؛ لذلك فعندما يخاطب سبحانه بالتكليف يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ...} [البقرة: 178].
ومن هذا نعلم أنه سبحانه لم يكتب فرضًا أو مهمة على من لم يؤمن، والإنسان يدخل في الإيمان باختياره، فإذا دخل في الإيمان كتب الله عليه. إذن: فالإيمان هو مدخل الفريضة. وما دُمْتَ قد آمنتَ فقد أصبحتَ طرفًا فيما فرضه الحق سبحانه وتعالى عليك؛ لأنك لو لم تؤمن فليست عليك فرائض، إذن: فأنت الذي ألزمتَ نفسك بحكم الله؛ لأنك آمنت به إلهًا خالقًا معبودًا. وبإيمانك أنت؛ فرض الله عليك، فأنت طرف في كل فريضة عليك. ورغم أنه سبحانه وتعالى هو الذي فرض، فقد أحبَّ فيك أنك دخلْتَ في نطاق التكليف بإيمانك؛ فبنى الفعل للمجهول.
وإذا جئنا إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَطَبَعَ على قُلُوبِهِمْ} نجد أن الحق يلفتنا هنا إلى أن المنافقين هم الذي جلبوا لأنفسهم هذا الطبع على القلوب؛ لأنهم وضعوا في قلوبهم الكفر، ثم أخذوا يتحدثون بألسنتهم عن الإيمان، ويحاولون خداع المؤمنين، ويخادعون الله؛ فأراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لهم: ما دمتم قد اخترتم النفاق والكفر في قلوبكم؛ فسنطبع على هذه القلوب، ونختم عليها حتى لا يخرج الكفر منها ولا يدخل إليها الإيمان.
فسبحانه وتعالى- إذن- هو الذي طبع على قلوبهم، ولكن بعد أن ملأوا قلوبهم بالكفر ونافقوا، وهم الذين تسببوا بهذا الطبع لأنفسهم، بعد أن بدأوا بالكفر، فطبع الحق سبحانه وتعالى على قلوبهم بما فيها من مرض، ولو لم يبدأوا بالكفر لما طبع الله على قلوبهم؛ ولهذا جاء الفعل مبيّنًا للمجهول، فهم مشتركون فيه.
أما الآية التي نحن بصددها فيقول تعالى: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وساعة ينسب الطَّبْع إلى الله يكون أقوى طبع على القلوب، ويأتي الطبع من الله سبحانه وتعالى كحكم نهائي من أن الله قضى عليهم به، فلا يخرج من قلوبهم ولو كان قدرًا ضئيلًا من النفاق، ولا تغادر قلوبهم ذرة من كفر، ولا يتسرب إلى قلوبهم ذرة من إيمان؛ لأنهم لا يعلمون قدر الإيمان الحق، والإنسان قد لا يفهم شيئًا، أي: لا يفقهه. ولكن قد يفهمه غيره ويعلمه هو عنه.
لذلك فنفي الفقه أو الفهم لا ينفي العلم، ولكن حين ينفي العلم فهو ينفي الفهم عن الذات، وينفي الفهم عن الغير، ولذلك حين يقال: {لاَ يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون بذواتهم، ولكن قد يتعلمون العلم من غيرهم.
أما إذا قلنا: {لاَ يَعْلَمُونَ} فالمقصود أنهم يفهمون ولا يتعلمون. إذن: نفي العلم ينسب إلى طبع الله على قلوبهم، أما نفي الفقه فينسب نسبة عامة للفعل المبني للمجهول.
فعندما نفى الحق سبحانه وتعالى الفقه عنهم بالفعل المبني للمجهول أوضح أنهم بنفاقهم لا يفقهون، ولكنه سبحانه وتعالى لم يَنْف احتمال أن يعلموا من غيرهم في المستقبل. ولكن عندما قال الحق: {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قد نفى عنهم- أيضًا- العلم بذواتهم، وكذلك نفى قدرتهم على العلم من غيرهم، وهذه أقوى أثرًا، وبذلك يكون الطبع على قلوبهم أقوى؛ لأنهم رفضوا العلم من ذواتهم ورفضوه من غيرهم.
ولذلك نجد {لاَ يَفْقَهُونَ} في موضع، ونجد {لاَ يَعْلَمُونَ} في موضع آخر، وكلُّ تناسب موقعها الذي قيلت فيه. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}
لما ذكر سبحانه المعذرين، ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة.
فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} وهم: أرباب الزمانة، والهرم، والعمى، والعرج، ونحو ذلك، ثم ذكر العذر العارض، فقال: {وَلاَ على المرضى} والمراد بالمرضى: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعًا.
وقيل: إنه يدخل في المرضى: الأعمى والأعرج ونحوهما.
ثم ذكر العذر الراجع إلى المال، لا إلى البدن فقال: {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي: ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم، مقيدًا بقوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وأصل النصح: إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح.
قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول، أي أخلصه له.
والنصح لله: الإيمان به، والعمل بشريعته.
وترك ما يخالفها كائنًا ما كان، ويدخل تحته دخولًا أوّليًا نصح عباده.
ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد.
وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه؛ ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به، أو ينهي عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» ثلاثًا، قالوا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وجملة: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} مقرّرة لمضمون ما سبق: أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل: أي طريق عقاب ومؤاخذة.
و{من} مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ {المحسنين} موضوعًا في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقًا.
أو يكون المراد: ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقًا من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية.
وجملة: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلية.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61].
وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين، لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه، مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد تركتم بعدكم قومًا ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم فيه» قالوا: يارسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: «حبسهم العذر» وأخرجه أحمد، ومسلم، من حديث جابر.
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} والعطف على جملة {مَا عَلَى المحسنين} أي: ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل.
ويجوز أن تكون عطفًا على الضعفاء: أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج.